فصل: من فوائد الرازي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأما الشهر الحرام، فالمراد به الأشهر الحرم، كانوا يأمن بعضهم بعضًا فيها، فكان ذلك قوامًا لهم، وكذلك إِذا أهدى الرجل هديًا أو قلد بعيره أمِنَ كيف تصرّف، فجعل الله تعالى هذه الأشياء عصمة للناس بما جعل في صدورهم من تعظيمها.
قوله تعالى: {ذلك لتعلموا} ذكر ابن الأنباري في المشار إِليه بذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أخبر في هذه السورة بغيوب كثيرة من أخبار الأنبياء وغيرهم، وأطلع على أشياء من أحوال اليهود والمنافقين، فقال: ذلك لتعلموا، أي: ذلك الغيب الذي أنبأتكم به عن الله يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض، ولا تخفى عليه خافية.
والثاني: أن العرب كانت تسفك الدماء بغير حلها، وتأخذ الأموال بغير حقها، ويقتل أحدهم غير القاتل، فاذا دخلوا البلد الحرام، أو دخل الشهر الحرام، كفُّوا عن القتل.
والمعنى: جعل اللهِ الكعبة أمنًا، والشهر الحرام أمنًا، إِذ لو لم يجعل للجاهلية وقتًا يزول فيه الخوف لهلكوا، فذلك يدل على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض.
والثالث: أن الله تعالى صرف قلوب الخلق إِلى مكة في الشهور المعلومة، فاذا وصلوا إِليها عاش أهلها معهم، ولولا ذلك ماتوا جوعًا، لعلمه بما في ذلك من صلاحهم، وليستدلوا بذلك على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض.
والرابع: أن الله تعالى جعل مكة أمنًا، وكذلك الشهر الحرام، فإذا دخل الظبي الوحشي الحرم، أنس بالناس، ولم ينفر من الكلب، ولم يطلبه الكلب، فإذا خرجا عن حدود الحرم، طلبه الكلبُ، وذُعِر هو منه، والطائِر يأنس بالناس في الحرم، ولا يزالُ يطير حتى يقرب من البيت، فإذا قرب منه عدل عنه، ولمْ يطرْ فوقه إِجلالًا له، فإذا لحقه وجعٌ طرح نفسه على سقف البيت استشفاءً به، فهذه الأعاجيب في ذلك المكان، وفي ذلك الشهر قد دللن على أن الله تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض. اهـ.

.من فوائد الرازي:

{جَعَلَ} فيه قولان: الأول: أنه بين وحكم، الثاني: أنه صير، فالأول بالأمر والتعريف، والثاني بخلق الدواعي في قلوب الناس لتعظيمه والتقرب إليه. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع وذكر تعظيم الكعبة بقوله: {هديًا بالغ الكعبة}، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قيامًا للناس أي ركز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى أحد، وصارت وازعة لهم من الأذى وهم في الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة ولا يخافون نارًا إذ لم يكن لهم ملك يمنعهم من أذى بعضهم فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر، ولذلك جعل الثلاثة المذكورة بعد الكعبة قيامًا للناس فكانوا لا يهيجون أحدًا في الشهر الحرام ولا من ساق الهدي لأنه لا يعلم أنه لم يجيء لحرب ولا من خرج يريد البيت بحج أو عمرة فتقلد من لحي الشجر ولا من قضى نسكه فتقلد من شجر الحرم، ولما بعثت قريش زمن الحديبية إلى المؤمنين الحلس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا رجل يعظم الحرمة فألقوه بالبدن مشعرة» فلما رآها الحلس عظم عليه ذلك وقال ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالة قريش، وجعل هنا بمعنى صيَّر.
وقيل جعل بمعنى بين وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى إذ لم ينقل جعل مرادفة لهذا المعنى لكنه من حيث التصيير يلزم منه التبيين والحكم، ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام كالبيت الذي كان في خثعم يسمى كعبة اليمانية، بين تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام، وهو بدل من الكعبة أو عطف بيان، وقال الزمخشري: البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفة كذلك انتهى.
وليس كما ذكر لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود فإذا كان شرطه أن يكون جامدًا.
لم يكن فيه إشعار بمدح إذ ليس مشتقًا وإنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال أنه لما وصف عطف البيان بقوله الحرام اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك والقيام مصدر كالصيام ويقال هذا قيام له وقوام له وكأنهم ذهبوا في قيام إلى أنه ليس مصدرًا بل هو اسم كالسواك فلذلك صحت الواو قال: قوام دنيا وقيام دين.
إذا لحقت تاء التأنيث لزمت التاء قالوا القيامة واختلفوا في تفسير قوله: {قيامًا للناس} فقيل باتساع الرزق عليهم إذ جعلها تعالى مقصودة من جميع الآفاق وكانت مكة لا زرع ولا ضرع، وقيل بامتناع الإغارة في الحرم، وقيل بسبب صيرورتهم أهل الله فكل أحد يتقرب إليهم، وقيل بما يقام فيها من المناسك وفعل العبادات، وروي عن ابن عباس، وقيل: يأمن من توجه إليها وروي عنه، وقيل بعدم أذى من أخرجوه من جر جريرة ولجأ إليها، وقيل ببقاء الدين ما حجت واستقبلت، وقال عطاء لو تركوه عامًا واحدًا لم ينظروا ولم يؤخروا.
وقال أبو عبد الله الرازي لا يبعد حمله على جميع الوجوه، لأن قوام المعيشة بكثرة المنافع وبدفع المضار وبحصول الجاه والرئاسة وبحصول الدين والكعبة سبب لحصول هذه الأقسام انتهى.
وقرأ ابن عامر قيمًا بغير ألف فإن كان أصله قيامًا بالألف وحذفت فقيل حكم هذا أن يجيء في الشعر وإن كان مصدرًا على فعل فكان قياسه أن تصح فيه الواو كعوض، وقرأ الجحدري قيمًا بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة وهو كسيد اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييد بزمان ولفظ الناس عام، فقيل المراد العموم، وقيل المراد العرب، قال أبو عبد الله بن أبي الفضل وحس هذا المجاز أن أهل كل بلدة إذا قالوا الناس فعلوا كذا لا يريدون بذلك إلا أهل بلدتهم فلذلك خوطبوا على وفق عادتهم انتهى.
والشهر الحرام ظاهره الإفراد، فقيل هو ذو الحجة وحده وبه بدأ الزمخشري قال لأن لاختصاصه من بين الأشهر المحرمة برسم الحج شأنًا قد عرفه الله انتهى، وقيل المراد الجنس فيشمل الأشهر الحرم الأربعة الثلاثة بإجماع من العرب وشهر مضر وهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ولذلك يسمى شهر الله إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثة فنسبه وسدده، والمعنى شهر آل الله وهو شهر قريش وله يقول عوف بن الأحوص:
وشهر بني أمية والهدايا ** إذا سيقت مصرحها الدماء

ولما كانت الكعبة موضعًا مخصوصًا لا يصل إليه كل خائف جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد قيامًا للناس كالكعبة.
{ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض} الظاهر أن الإشارة هي للمصدر المفهوم أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قيامًا للناس وأمنًا لهم ليعلموا أنه تعالى يعلم تفاصيل الأمور الكائنة في السموات والأرض ومصالحكم في دنياكم ودينكم فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم، وأجاز الزمخشري أن تكون الإشارة إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره، وقال الزجاج الإشارة إلى ما نبأ به تعالى من الأخبار بالمغيبات والكشف عن الأسرار مثل قوله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} ومثل إخباره بتحريفهم الكتب أي ذلك الغيب الذي أنبأكم به على لسان رسوله يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض.
وقيل الإشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة فيعيش أهلها معهم ولولا ذلك ماتوا جوعًا لعلمه بما في مصالحهم وليستدلوا على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض.
{وأن الله بكل شيء عليم} هذا عموم تندرج فيه الكليات والجزئيات كقوله تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها}. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ}.
أي: مدارًا لقيام أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرض له وجبي ثمرات كل شيء إليه.
قال المهايميّ: جعله الله مقام التوجه إليه في عبادته للناس المتفرقين في العالم، ليحصل لهم لهم الاجتماع الموجب للتألف، الذي يحتاجون إليه في تمدّنهم، الذي الذي به كمالُ معايشهم ومعاهدهم، لاحتياجهم إلى المعاونة فيهما.
{وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} بمعنى الأشهر الحرم- ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب- قيامًا لهم بأمنهم من القتال فيها. لأنه حرم فيها ليحصل التآلف فيها: {وَالْهَدْيَ} وهو ما يهدى إلى مكة: {وَالْقَلائِدَ} جمع قلادة. وهي ما يجعل في عنق البدنة التي تهدى وغيره. والمراد بـ «القلائد» ذوات القلائد وهي البدن. خصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر. والمفعول الثاني محذوف، ثقةً بما مرّ، أي: جعل الهدي والقلائد أيضًا قيامًا لهم. فإنهم كانوا يأمنون بَسَوْق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم. وفيه قوام لمعيشة الفقراء ثَمَّت. وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوها أو قلّدوا أنفسهم، عند الإحرام، من لحاء شجر الحرم. فلا يتعرض لهم أحد: {ذَلِكَ} أي: الجَعْل المذكور: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فإنّ جعله ذلك لجلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل وقوعها، دليلٌ على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن.
وقد جوّد الرازيّ تقرير هذا المقام فأبدع، فلينظر.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعميمٌ إثر تخصيصٍ للتأكيد. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}.
استئناف بياني لأنّه يحصل به جواب عمّا يخطر في نفس السامع من البحث عن حكمة تحريم الصيد في الحرم وفي حال الإحرام، بأنّ ذلك من تعظيم شأن الكعبة التي حُرّمت أرضُ الحرم لأجل تعظيمها، وتذكيرٌ بنعمة الله على سكّانه بما جعل لهم من الأمن في علائقها وشعائرها.
والجعل يطلق بمعنى الإيجاد، فيتعدّى إلى مفعول واحد، كما في قوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور}، في سورة الأنعام (1)، ويطلق بمعنى التصيير فتعدّى إلى مفعولين، وكلا المعنيين صالح هنا.
والأظهر الأول فإنّ الله أوجد الكعبة، أي أمر خليله بإيجادها لتكون قيامًا للناس.
فقوله: {قيامًا} منصوب على الحال، وهي حال مقدّرة، أي أوجدها مقدّرًا أن تكون قيامًا.
وإذا حمل {جعل} على معنى التصيير كان المعنى أنّها موجودة بيتَ عبادة فصيّرها الله قيامًا للناس لطفًا بأهلها ونسلهم، فيكون {قيامًا} مفعولًا ثانيًا لـ{جعل}.
وأمّا قوله: {البيت الحرام} يصحّ جعله مفعولًا.
والكعبة علم على البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام بمكة بأمر الله تعالى ليكون آية للتوحيد.
وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى: {إنّ أوّل بيتتٍ وضع للناس للذي ببكة} في سورة آل عمران (96).
قالوا: إنّه علم مشتقّ من الكَعَب، وهو النتوء والبروز، وذلك محتمل.
ويحتمل أنّهم سمّوا كلّ بارز كعبة، تشبيهًا بالبيت الحرام، إذ كان أول بيت عندهم، وكانوا من قبله أهل خيام، فصار البيت مثلًا يمثّل به كلّ بارز.
وأمّا إطلاق الكعبة على «القليس» الذي بناه الحبشة في صنعاء، وسمّاه بعض العرب الكعبة اليمانية، وعلى قبة نجران التي أقامها نصارى نجران لعبادتهم التي عناها الأعشى في قوله:
فَكعْبَةُ نَجرَان حَتْم عليكِ ** حتى تُناخي بأبوابها